هذا الأمر يحدث مئات المرات؛ أن تقوم بإغلاق المنبه في الصباح، ثم تختار زيًّا مناسبًا لارتدائه، ثم تختار طعام الإفطار، وهكذا. كل اختيار من هذه الاختيارات نتصور أننا نقوم بها بمحض إرادتنا باعتبارنا عملاء أحرارًا، نتحكم في أجسادنا ونوجهها نحو هدف ما من اختيارنا دون إجبار أو توجيه خارجي. فماذا يقول العلم عن هذه الإرادة الحرة؟
في ورقة بحثية نشرت قبل حوالي 20 عامًا، أدلى عالما النفس دان واجنر، وتاليا يتلي، باقتراح وفرضية ثورية، فقد اقترحوا أن تجربة القيام بعمل متعمد بمحض إرادتنا الكاملة، لا يُعدّ شيئًا أكثر من فعل خاص بالاستدلال السببي، الذي تسببت به بعض أفكارنا تجاه سلوكنا. أي أن أفكارنا المسبقة والمخزنة في عقولنا هي التي تجعلنا نقوم بأداء هذه الأنواع من السلوكيات التي نعتقد أننا اخترنا القيام بها. ومن هنا فإن المشاعر نفسها لا تلعب أي دور سببي في إنتاج سلوكياتنا.
هذا الاقتراح الثوري، يمكن أن يؤدي بنا أحيانًا إلى الاعتقاد بأننا قمنا بخيار ما، لكننا كنا في الواقع لم نقم بأي خيار مختلف عما كنا سنقوم به بالفعل، إذا وقفت بين خيارين في لحظة ما وكان عليك اختيار أحدهما، فأنت في الحقيقة لا تقوم بأي اختيارات هنا، لأن الخيار الذي ستختاره هو الخيار الذي تفرضه عليك أفكارك المسبقة وخبراتك العقلية المكتسبة.
لغز غامض
ولكنَّ هناك لغزًا غامضًا يظهر هنا، فكما اقترح كلُّ من واجنر ويتلي، أننا نلاحظ قيامنا بأفعال معينة دون وعي، مثل اختيار زجاجة عصير معينة من السوق مثلًا، لنلاحظ في النهاية أننا قمنا بهذا الفعل دون اختيار كما كنا نعتقد، ولكن عن قصد. فإذا كان هذا هو التسلسل الصحيح للأحداث: اختيار زجاجة عصير التفاح بدلًا من الخوخ، والاعتقاد وقتها أنه اختيار بمحض إرادتنا، ثم الاكتشاف بأن الأمر تم عن قصد، فكيف يمكن أن ننخدع، بالاعتقاد في أننا قمنا بهذا الخيار بمحض إرادتنا، قبل أن نتعرف ونكتشف هذا التسلسل للأحداث؟
بمعنى آخر، كيف لنا أن ننخدع بأن ما قمنا به باختيارنا الكامل، هو في الحقيقة فعل حدث بشكل لا واعٍ منا، وأنه كان أمرًا محتومًا! هذا التفسير المتعلق بفكرة إرادتنا الحرة، وأننا وكلاء أنفسنا، يبدو أنه في حاجة إلى أسباب خلفية معينة، بالإضافة إلى أن خبراتنا الواعية ستتحول إلى سلوك ومنتج واضح لنا، في أفعالنا واختياراتنا.
في دراسة حديثة نشرت في مجلة علم النفس، حاول علماء استنتاج واستكشاف حل جذري لهذا اللغز. فربما في اللحظة نفسها التي نخوض فيها تجربة الاختيار، فإن عقولنا تُعيد كتابة التاريخ، وبالتالي فإنها تخدعنا بأن هذا الخيار الذي قمنا به، والذي اكتمل بالفعل بعدما أخذ تسلسله الكامل اللاشعوري؛ هو خيار قمنا به بكامل إرادتنا على طول الخط وبشكل مستمر، ونحن نعتقد أننا قمنا بخيار جديد.
هل يخدعنا عقلنا طوال الوقت؟
آلية غير معلومة
الطريقة الدقيقة التي يقوم بها عقلنا بإعادة كتابة التاريخ بهذه الطريقة، لا تزال غير مفهومة بشكل كامل، ولكن على الرغم من هذا فقد تم توثيق ظواهر مماثلة لهذه الفكرة في أماكن مختلفة. فعلى سبيل المثال، نحن نرى الحركة الظاهرية لنقطة ما قبل أن نرى بأعيننا هذه النقطة تصل إلى وجهتها الأخيرة. أيضًا، نحن نشعر باللمسات الوهمية على أذرعنا قبل أن يجري بالفعل حدوث لمس حقيقي على أذرعنا هذه.
هذا النوع من الأحاسيس المسبقة أو الأوهام الحسية لا يمكن تفسيره إلا بوجود تأخير في الوقت الذي تستغرقه المعلومات من العالم حولنا لتصل إلى الإدراك الواعي، ولأنه يتخلف قليلًا إلى الوراء، فيمكن للوعي أن يستبق الأحداث المستقبلية التي لم تدخل إلى إدراكنا الواعي بعد، والتي جرى تشفيرها لا شعوريًا، بما يسمح للوهم بأن يشعرنا بما سيحدث مستقبلًا طبقًا للمعلومات المخزنة من الماضي والمعتمدة على خبراتنا المسبقة المسجلة في عقولنا.
واعتمدت هذه الدراسة على إحدى التجارب المثيرة، فقد ظهرت لعدد من المشاركين خمس دوائر بيضاء بشكل مستمر ومتكرر على شاشة الكمبيوتر، وكان يطلب منهم في كل مرة اختيار واحدة من هذه الدوائر في دماغهم قبل أن تضاء باللون الأحمر. وإذا ما تحولت الدوائر للون الأحمر بسرعة كبيرة قبل أن يشعر المشاركون أنهم قادرون على إكمال خياراتهم، فإنه يتملكهم شعور أن وقتهم ينفد. عدا ذلك فإنه يتم تسجيل ما إذا استطاع المشاركون اختيار الدائرة التي تحولت لاحقًا للون الأحمر أم أنهم اختاروا دائرة مختلفة.
هذه التجربة الغريبة استنتج منها العلماء كيف أن الناس كانوا عرضةً للإبلاغ عن تنبؤ ناجح بين هذه الحالات التي كانوا يعتقدون أن لديهم الوقت للقيام بخيارهم. بمعنى أن بعض الأشخاص تمكن من اختيار أي دائرة من الدوائر الخمس ستتحول إلى اللون الأحمر قبل أن تتحول فعليًا عندما كان يتم إعطاؤهم وقتًا مناسبًا للاختيار.
وبدون علم المشاركين، فإن الدائرة التي تضاء باللون الأحمر في كل محاولة لهذه التجربة كان يجري اختيارها بشكل عشوائي كامل من خلال الكمبيوتر. وبالتالي إذا أكمل المشاركون خياراتهم عندما أعلنوا عن أنهم أتموا الاختبار قبل إضاءة أي دائرة باللون الأحمر، فقد جاءت النتيجة أنهم بالفعل يختارون الدائرة التي تحولت لاحقًا إلى اللون الأحمر في محاولة ناجحة من بين كل خمس محاولات، أي بنسبة نجاح 20%.
بدون إرادة حرة قد تنهار فلسفة العقاب
الوهم والإدراك الواعي
لكن هناك مشاركين شذوا عن هذه النتيجة بشكل كبير ووصلت نسبة نجاحهم في التوقع إلى 30%، خصوصًا في المرات التي كانت الدوائر تتحول فيها إلى اللون الأحمر بشكل سريع جدًا. هذا النمط من الاستجابة يوحي بأن عقول المشاركين كانت تتبادل أحيانًا ترتيب الأحداث في الإدراك الواعي، مما يخلق وهمًا معينًا بأن الاختيار سبق بالفعل عملية تغير اللون.
والأهم من ذلك أن اختيار المشاركين الدائرة الحمراء بشكل صحيح انخفض لأقل من 20%، عندما كانت فترة التأخير الخاصة بتحول الدائرة للون الأحمر طويلة بشكل كافٍ ليصبح العقل اللاواعي غير قادر على لعب هذه الخدعة في العقل الواعي، الخاصة باختياره هو للدائرة التي ستتحول للون الأحمر قبل أن يقوم العقل الواعي بالاختيار. هذه النتائج ضمنت لنا أن المشاركين لم يحاولوا ببساطة خداع العلماء أو خداع أنفسهم عن قدراتهم التنبؤية أو فيما يتعلق بأنهم يحبون النتيجة الصحيحة فقط.
في الواقع، فإن الأشخاص الذين أظهروا الوهم المتعلق بنقص الوقت هذا، كانوا يجهلون في الغالب قيامهم بهذا الأداء الخاص باستخلاص الاختيارات الصحيحة بعد انتهاء التجربة. هؤلاء الأشخاص الذين تولد لديهم هذا الوهم لم يكونوا واعين بخياراتهم هذه عندما قاموا بها.
وفي تجربة أخرى، وجد العلماء أن التحيز والميل تجاه اختيار الخيارات الصحيحة لم يكن مدفوعًا أو نتيجة ارتباك أو عدم اليقين حول ما جرى اختياره. فحتى عندما كان المشاركون على ثقة عالية في اختيارهم، فقد أظهروا ميلًا إلى اختيار الإجابة الصحيحة بمعدل عالٍ جدًا يكاد يكون مستحيلًا.
ملخص التجارب السابقة يشير إلى أننا قد نكون عرضةً للتضليل المنهجي حول الكيفية التي نقوم بها باختياراتنا، حتى عندما يكون الحدس لدينا قويًّا جدًا لاختيار العكس، والسؤال هنا هو لماذا تخدعنا عقولنا بمثل هذه الطريقة التي تبدو لنا سخيفة في المقام الأول؟ ألن يقوم هذا الوهم بالعيث فسادًا في حياتنا العقلية وفي سلوكياتنا؟
ربما تكون الإجابة لا، ربما يمكن لهذا الوهم أن يفسر ببساطة بالمطالبة بحدود في معالجة الإدراك الحسي في الدماغ، والذي يكون في حالة فوضى فقط في الفترات الزمنية القصيرة جدًا لتجاربنا والتي من غير المحتمل أن تؤثر علينا في العالم الحقيقي. الاحتمال الآخر، هو أن عقولنا تهدف إلى تشويه تصورنا للاختيار، وهذا التشويه هو خاصية وسمة هامة، وليست مجرد علة، عن الآلية والآليات المعرفية لدينا. فعلى سبيل المثال، لو كانت تجربة الاختيار هي نوعًا من الاستدلال السببي، فإن تغيير ترتيب الاختيار والفعل في الإدراك الواعي قد تساهم في فهم أننا كائنات مادية يمكنها أن تنتج تأثيرات عديدة في العالم من حولنا. وبشكل أوسع، فإن هذا الوهم يمكن أن يكون أمرًا مركزيًا لتطوير الاعتقاد بالإرادة الحرة وبالتالي تحفيز عملية العقاب.
{jcomments on}
Soyez le premier à commenter