الكراهية

لا أجد مسوغا لتلافي الخوض فيما أكره، خاصة إذا تعلق الأمر بأحد أكبر الزلات الإنسانية قسوة وحقدا وعداوة. ولهذا يعجبني قول الحكماء: اتقوا من تبغضه قلوبكم. فأنا أبغض حقا مجرد التفكير في الكتابة عن الكراهية، لولا أنها قدر مفتون بالظهور والتخفي بلبوس التقديم والتأخير. وأخوف ما أخاف ألا أعدل بين ما أحب وما أكره، فالجريرة العظيمة أن تعميني الكراهية عما هو حقيق بالبذل والعطاء.

تقدير الكراهية عند المفكرين والفلاسفة ليس كتقدير العامة لها. وإسرافهم في القبض عليها والتأسيس لدوامها ومقامها يثير العجب لدى غالب من يرى عكس ذلك. فكبير الفلاسفة الشكاكين ديكارت يعتبر الحقد والكراهية أعدل الأشياء توزعا بين الناس. ورائد الشعرية الرومانسية هوغو يطلق على الكراهية « شتاء القلب ». أما سوبرمان فلسفة الضغينة نيتشه فيوثرها عن المحبة لأنها لا تحبس الأنفاس عن مغالبة الشعور بالهزيمة والاستسلام والإذعان للفشل.

وفي كل ما قيل عن الكراهية ومازال، هناك اصطراع وعداوة ظاهرين يظلان قائمين مادام في الإنسان عرق ينبض. فقد تشاكلت النفس وتغالبت على العيش بقوة التدافع والتباعد، وهي تختلف وتتنافس تحت شروط مختلة ومتعالية. وفي ترجمة هذه الأحاسيس والموانع ينبت طوق الكراهية والحقد والبغضاء بين الناس.

وأحيانا يصعب على التفكير ربط هذا بذاك، ووسم الأسماء بالمسميات والمواقع بأحداثها، والزمن بالمتغيرات. إلا أنه وفي حضور ما يفيد أزمة القيم ومظاهر الأخلاق في المجتمع المغلق، يبرز التأويل المبطن لقياسات السلوك الإنساني بغير الطبيعي، فنقول بالعداوة الشخصية أو الجمعية، ونمعن النظر في أسبابها ومسبباتها، ثم نصنف العنف وخطاباته، فنستدر الضلوع الزائد في كل ما هو طوباوي أو مقدس، وكل ما هو مآلي أو مصيري، وكل ما هو سلطوي أو غرائزي…إلخ.

ريني جيرار تحدث في « العنف والمقدس » عن الكراهية بمفهومها الذي يكرس حجم العنف ومحيطاته. تحول ضحايا الكراهية والعنف إلى مؤسسات رمزية، كذا العنف التأسيسي الذي يحول ذاكرة « الكراهية إلى انفعال حزين لا يؤسس شيئا؛ إذ لا يوجد كره مقدس، والقتل ليس كرها، والإنسانية استعملت القتل لتأسيس عوالم الحياة، لكن تقاليد الكره ظلت دوما بالنسبة إليها نفايات أخلاقية يجب التخلص منها خارجا » (فريديتش نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق ـ ترجمة فتحي المسكيني، تونس دار سيناترا 2010، عن الكراهية ص15 و16).

لقد كانت فكرة الكراهية الناشئة عن فعل خارج المحسوس نفيا تعليليا لما يمكن تحويله إلى تقليد وانهزامية، بعض مباعثها طاقة الشر الزائد وقابلية لموت الأخلاق، بالتصوير نفسه الذي يفسر بالبداهة تعطيل الحياة عن قصد واستئثار، وتبديل الشعور بالأشياء الجميلة إلى غضب وخوف.

وكتب الطبيب النفسي الأمريكي إيريك لينارد بيرن في قراءته العميقة للشعور بالتيه الروحي وكراهية الآخرين، أن الفرد المريض في المجتمع المغلق ينفعل خارج دائرة الضوء، يتحطم بذاته لذاته، ويعادي توقه للتغيير، دون أن يحدد مسارا لاختيار نهايته. وقدم بيرن تحليلا نفسانيا واعيا خلال تعرضه لحالات تمجد الكراهية وتستنبتها كملجأ معادل للعزلة والاكتئاب واليأس من الحياة.

وقال في سياق حديثه عن شخصية الكاره ومزاجيته الحادة في كتابه « مباريات يلعبها الناس »: « الذين يكرهون لا يستطيعون إخفاء كراهيتهم، وهم يعلمون أن ما يفعلونه ليس صوابا. إن قدرتهم على الكره لا تطمسها نواياهم تجاه ما يكرهون، ولا يصيب ذلك غير ما يسنح لهم من التحامل والتجني وارتقاء الجنون ».

في اللاوعي يكمن جوهر الكراهية، بما هي شر وخطيئة. شران متلازمان: فيزيقي يحمل على الألم والعذاب، وأخلاقي ينسرب من خامة الخطيئة. وبينهما يعيش الإنسان العدو، أقصد عدو النفس الذي يتربص بخائليته، فلا يربأ أن يمكر بالناس ويحتال عليهم ويستهزأ ويستبيح ويغتاب ويبادل الإحسان بالإجهام والكرم بالنذالة والحلم بالنكران. وصدق ميلان كونديرا حينما قال: « إن أكبر معركة يجب أن يخوضها الإنسان هي معركته مع نفسه، معركة ينتصر فيها حب العدالة على شهوة الحقد ».

مصطفى غلمان

Soyez le premier à commenter

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée.


*