ملاحظة هامة : الموضوع منشور بموقع « أزمنة سياسية » ضمن سلسلة تبحث في ملف الهجرة والفوضى
عندما خرجت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في 2002 لتعلن عن الشرق الأوسط الكبير ونظرية « الفوضى الخلاقة »، ظن الكثيرون أن هذه هي المرة الأولى التي يسمع العالم فيها عن هذه النظرية، وانبرى البعض في توصيف سياسي وعسكري ينطلق من ظروف منطقة الشرق الأوسط والدول المتدخلة في أحداثه فقط… مما حدا بالكثيرين إلى تحليل المغزى الأمريكي من « الفوضى » على ان المنطقة ستعرف صراعا حادا بين مكونات المشهد السياسي هناك…
الجميع يعلم الآن ما كان المقصود « بالفوضى الخلاقة » … وكيف ان المنطقة بل والعلاقات الدولية بأسرها تعرضت لفوضى عارمة لا زالت قائمة لحد الآن، وحتى نتمكن من استنباط المستقبل وانطلاقا من اعتبار أن نظرية مثل هذه لا يمكن ان تكون وليدة ظروف سياسية آنية، سنعمد على محاولة تفتيت بنية المفهوم النظري للفوضى، حتى لا نقع في أزمة مناقشة قشور الموضوع.
1- بداية البداية
قبل أن خُلِقت السموات والأرض، أي في البداية الأولى، كان الكون بأسره فوضى جسيمة مائية مضطربة. ومن هذا الاضطراب المخيف خرجت كائنات إلهية بدائية إلى الوجود. بيد أنها كانت على حالٍ من الفوضى والارتباك لا يمكن وصفهما. ومرَّت الدهور والأحقاب واتخذت الآلهة أشكالاً واضحة، وأخذت تعمل. وسرعان ما قررت زمرة منها أن تسنَّ للفوضى نوعاً من القانون والنظام. وكانت هذه الخطوط مقدامة ولاشك أثارت خصومة الكثير من المعبودات المحافظة التي ظنت أن « النظام » القديم كان صالحاً جداً ويجب أن يستمر على حاله. وقد جابه قرارها استنكار الآلهة تعامة خاصة. وتعامة هذه هي أم الفوضى، وهي معبودة بشكل تنين يتجسم فيه الشر تارة والخير تارة أخرى. وعندما علمت تعامة بعزم الآلهة على جلب النظام إلى ملكها لتقضي به لا على سلطتها فحسب بل وعلى أبَّهتها، صممت على القتال، وأدركت أن وقته قد حان. وكانت قد خلقت من هذه الفوضى مردة جبابرة لها أطراف حيوانات مختلفة تمتلك قوة مخيفة من الدمار. وهكذا دعت إليها زوجها وجيشها الفتي وتهيأت للنزال. وقد فزعت الآلهة الداعية للنظام أول الأمر، إذ إن المهمة التي تنادت من أجلها أصبحت مهدِّدة لكيانها نفسه. وأخيراً تجرأ إله منها وتقدم إلى ساحة المعركة، وشهر أسلحته، وأمر الرياح الأربع الجبارة أن تحارب إلى جانبه. فتقدمت تعامة مشخَّصة بالفوضى، وفغرت فاها الرحيب لابتلاعه، فأتاحت الفرصة لهذا الإله الذي ساق على الفور الرياح القوية إلى فمها باندفاع شديد، فجعلت جسم الإلهة–التنين ينتفخ لدرجة لم تعد تستطيع معها حراكاً. وعندئذ قضى عليها بأسلحته. ثم ظهرت المشكلة: وهي ماذا يجب عليه أن يفعل بهذه الجثة الهائلة. إنها هائلة الحجم ولها شكل يشبه القربة الكبيرة. وبعد تفكير طويل، قرر الإله شطر الجثة شطرين، وجعل القسم الأول منها مسطحاً فكانت الأرض. أما النصف الثاني فقد بَسَطَه فوق الأرض، فكانت السموات. وهكذا ماتت الفوضى وبدأ عمل النظام يستقر الآن في العالم. وقد أُسِر في المعركة زوج تعامة، وهو الإله كونكو الشرير. وكانت قوته قد تضاءلت بعد مقتل زوجه، فقطعت الآلهة رأسه، وخلقت البشر من طين التراب الممتزج بدمه.
اختيار ملخص لأسطورة الخلق البابلية كبداية – لهذا التمرين الذي ألقيناه على عاتقنا والمتمثل في علاقة الهجرة بالفوضى الخلاقة وآثارها على المستقبل الأوربي، و الذي أعطيناه عنوان: « الفوضى الخلاقة » و »الفيزياء السياسي »– سببه :
– من جهة أن مضمونها يحتوي المحاور الأساسية التي سيدور بحثنا ،
– ومن جهة أخرى رمزيتها الأسطورية تطرح بوضوح تجذُّر وسيادة مفهوم النظام في عقلية الإنسان منذ العصور السحيقة…. ومع ذلك، لم ينجح أحد حتى الآن في تحديد ماهية النظام أو الفوضى! …
– ومن جهة ثالثة، نسبية هذين المفهومين مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكون وبمعرفتنا لبدايته ولنهايته ولقوانينه.
ذلك ما يفسرالهدف الأساسي للعلم الذي كان حتى فترة قريبة هو اكتشاف نظام الطبيعة. غير أن العلماء يكتشفون الآن « الفوضى » في الطبيعة:
- فهل تغيرت نظرة العلم، وكيف يجب أن نقدر وأن نفهم هذا التحول الذي يهدف إلى خلق نوع غير اعتيادي من العلم؟
- وهل يمكننا أن نحافظ على مفهومنا الاعتيادي للفوضى إذا هي أصبحت موضوع دراسة علمية، بل ومحددة بقوانين رياضية؟!
- وفي كافة الأحوال، هل يمكننا إعطاء الفوضى أي معنى دون اللجوء لمفهوم النظام؟
- ثم ما مآل مفهوم النظام الكوني الذي ساد تصوراتنا الميثولوجية والفلسفية والعلمية حتى الآن؟ وأي موقع سيحتله الناس فيه؟
- وهل سيقترن عندها مفهوم الحرية البشرية بمفهوم درجات الحرية في الفوضى؟!
تلك هي أهم الأسئلة التي ستشكل محاولة الاجابة عنها ، هنا على أساس دراسة انعكاساتها على الفكر الفلسفي في الجزء القادم…
2- هل الكون بطبيعته متوازن أم غير متوازن؟
جميع الديانات والعلوم والفلسفات تقر الى عهد قريب أن الكون بطبيعته متوازن… لكن عصرنا يخبرنا اننا نعيش في عهد غريب وغير متوازن.. بدأت مرحلته الأولى في الفترة ما بين أواخر القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، وتأسست معالمه منذ منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين … ولأن الفترة الأولى كانت فترة تحول كبير في البناء الاجتماعي الأوروبي، فإن النخب الثقافية والعلمية والسياسية بدأت تؤسس لأفكار عدمية، وذلك في مواجة ما تبقى من سلطة الكنيسة في أوروبا وشرعية الحاكم ظل الله على الأرض والذي كانت تمثله الممالك الأوربية، وقد سعى هذا الجيل من المفكرين إلى عملية فرض النظريات الاجتماعية والعلمية والثقافية والسياسية على عموم النخب والمجتمعات العالمية على اعتبار أنها من متطلبات المرحلة الثورية، وبطريقة راديكالية بدأ العلم ينحني للرؤى الفكرية وبدأ الفكر يبني طريقه بناء على الفكر العلمي البحت…. فأصبحت العلوم الطبيعية تبحث بشكل علمي عن تفسير كوني للنظريات السياسية ، الأمر نفسه سيحدث خلال منتصف القرن العشرين مع « سياسة الفوضى » والتي في حقيقتها معروفة (بنظرية الفوضى) فى الفيزياء النظرية . هذا التداخل بين الفكر السياسي والعلمي سينتج لاحقا ما يسمى بعلم « الفيزياء السياسي ».
فعلا كان القرن العشرين واحدا من أهم القرون علي المستوى العلمي، فقد تضافرت فيه عوامل عدة أدت إلى حدوث نهضة في العلم لم تسبقها أي نهضة في العصور السابقة…. ومن بين المجالات العلمية التي احتلت الصدارة نجد العلوم الفيزيائية حيث ظهرت العديد من النتائج والنظريات والأفكار الجديدة، ولعل أبرزها كانت ثلاثة نظريات هامة وهي:
النظرية الأولى : النسبية La relativité
هي نظرية تنسب إلى ألبرت آينشتاين Albert Einstein ، في حين يرى الكثيرون أنها في الأصل تعود لعالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه Henri Poincaré واضع النظرية النسبية الخاصة. نشرت الأبحاث المتعلقة بهذه النظرية سنة 1905 وتتعلق بالإجابة على التساؤلات التي كانت مطروحة آنذاك حول خواص الضوء وتصرفاته، ونتائج تجربة ميكلسون ومورلي Michelson-Morley التي قامت بفحص انتشار الضوء في الاتجاهات المختلفة، وكانت نتائجها تناقض قوانين السرعة الكلاسيكية المعروفة.
تكمن أهمية النظرية النسبية، في أنها غيرت المفاهيم الفيزيائية الأساسية، المتعلقة بالكتلة والطاقة والمكان والزمان، وصنعت نقلة نوعية في فيزياء الفضاء والفيزياء النظرية، وعدلت مفهوم الحركة في نظريات الفيزياء الميكانيكية لنيوتن( Isaac Newton 1642–1727)، والتي بقيت سائدة حوالي 200 سنة… حيث نصت أن الحركة والزمن نسبيين، وبعدما كان الزمن معطى مطلق ويسير دائما إلى الأمام، اصبح مجرد بعد رابع يدمج مع الأبعاد الثلاثة المكانية. ووحدت بين الزمان والمكان بعدما كان يتم التعامل معهما كشيئين مختلفين. وجعلت مفهوم الزمن يتوقف على سرعة الأجسام -أي نسبي حسب سرعة الأجسام-، وأصبح تقلصه وتمدده مفهوماً أساسياً لفهم الكون. وبذلك تغيرت كل الفيزياء الكلاسيكية النيوتونية.
لا أرى داعيا للإطالة في شرح النظرية على اعتبار انها معروفة لدى فئات واسعة من الناس، لكن يمكن تلخيصها كالتالي : كان الانسان حسب قوانين نيوتن يعتبر انه يتواجد في مكان ثلاثي الابعاد وأن الزمن يشكل خيط الحياة العابر – تنتهي حياتنا حينما ينتهي خيط الزمان المحدد لنا- وتحركنا يكون في المكان وليست له علاقة بخيط حياتنا ذلك…. النسبية « لخبطت » بعض الشيء هذا الاعتقاد المريح، حيث اعتبرت ان خيط حياتنا مرهون بطبيعة تحركنا في المكان، وأن اي زيادة أو نقصان بين -ذا قيمة واضحة- في سرعة تحركنا تأثر بالضرورة على خيط حياتنا، بعبارة اخرى حياتنا تطول او تنقص حسب السرعة التي نتحرك بها… رؤية خلقت نوعا من القلق لكنه بقي محصورا في هؤلاء الذين درسو النضرية ، بما أن سرعة تحركنا لم تتغير منذ آلاف السنين فلا داعي للقلق قد لا نلاحظ حقيقة النظرية، وبالتالي حافض الناس على اعتقاداتهم ….
أدت مفاهيم النظرية النسبية إلى ظهور علوم جديدة كلياً مثل: الفيزياء الفلكية وعلم الكون. بالإضافة لاستخدامها في تطبيقات حياتية كنظام الملاحة العالميGPS.
النظرية الثانية : ميكانيكا الكم La mécanique quantique:
في بداية القرن العشرون كان لبعض التجارب نتائج لا يمكن أن توضحها الفيزياء الكلاسيكية، فعلى سبيل المثال كان المشهور أن الإلكترونات تدور حول نواة الذرة، وهي بذلك تشبه الكواكب التي تدور حول الشمس… لكن الفيزياء الكلاسيكية تتنبأت أن الإلكترونات ستتلولب وتصطدم بالنواة في جزء من الثانية. في حين الواقع يشي بخطأ التنبؤ (!!!!؟؟؟؟) … ومع تطور تّجارب أخرى لا تفسرها لا الفيزياء الكلاسيكية ولا فيزياء النسبية بدأ العلماء يبحثون عن نظرية جديدة قادرة على توضيح وتفسير العالم على المستوى الذري.
في 1690 فسر كريستيان هوغنس Christiaan Huygens أن الضوء مكون من موجات، ولكن في 1704 فسر إسحاق نيوتن بأن الضوء مكون من جسيمات صغيرة جدا… وقد دعمت مجموعة من التجارب كلى النظريتين، فبقي الأمر دون حسم على الرغم أن النظريتين لا يفسران الوضعيتين معا، نظرية هوغنس تتعامل مع الضوء كموجة في حين نظرية نيوتن تتعامل معه كجسيمة.. لذلك وخلال 200 سنة تعامل العلماء مع الضوء على انه حينا موجة وحينا آخر جسيمة، بحسب التجربة والوضعية (؟؟؟؟).
عام 1923 لويس دي بروجلي Louis Victor de Broglie افترض بأن مادة الجسيم يمكن أن يكون لها نفس خواص الموجات، وفي 1927 أكدت تجربة (Clinton J. Davisson et Lester H. Germer) أن الإلكترونات يمكن أن تتصرف مثل الأمواج.
كيف يمكن لشيء أن يكون جسيم وموجة في نفس الوقت؟ !!!!!!!!!!!!
التعجب هنا يتعلق بالحديث عن شيء تارة مادي (جسيم) وتارة لا مادي (موجة)
لفهم هذه الازدواجية نعطي المثال التبسيطي التالي : لنفترض أن لدينا آلة رمي النبال، وهناك احتمال 5% بأن تسقط تلك النبال في نقطة الهدف و95% بأن تسقط في الحلقة الخارجية…. ولا يوجد فرصة (أي 0 احتمال) لضرب أي مكان آخر على الرقعة… بمعنى آخر انه إذا تركنا الآلة لترمي 100 نبلة وتركنا النبال المائة علقة على لوحة الرمي بعد سقوطها، سنرى كل نبلة منفردة (وستظهر النبال كجسيمات مع تحديد المكان الذي تعلق به)، لكننا حين محاولة رؤية اللوحة في مجملها، سنرى حلقة كبيرة من النقط (تمثل 95 نبلة) تحيط بعنقود صغير في المنتصف (5 نبال). هذا النموذج يمثل تراكم النبال الفردية حسب احتمال السقوط، وهو ما يمثل حركات الموجات أي سلوك النبال.
فعلا تمكن كلينتون دافيسون و ليستر جيرمر (Clinton J. Davisson et Lester H. Germer) اثبات تلك الحقيقة عن طريق تجارب تداخل أجروها بواسطة تصويب فيض الإلكترونات على بلورة أحادية من النحاس . وبالتالي فقد أثبت العالمان صحة معادلة دي برولي عن الموجة المادية.
وبينت تجربة أخرى مشهورة للإلكترونات تسمى تجربة الثقبين ، أجراها كلاوس جونسون عام 1960 في جامعة توبنجن بألمانيا. كما أجريت تجارب مماثلة عن التداخل باستخدام جسيمات أولية ، وباستخدام ذرات أو حتى جزيئات ، وأثبتت كل تلك التجارب افتراض دي برولي الذي حصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 1929.
لنشرح إذا احد أهم مرتكزات ميكانيكا الكم: يعتبر الإلكترون لفظا مألوفا بالنسبة لكل إنسان، حتى الأطفال الصغار يعتبرون الأجهزة الإلكترونية جزء أساسي من الحياة المعاصرة… ولكن ما هو الإلكترون على وجه التحديد؟ فهذا أمر قد لا نعرفه، و(نحن) هنا لا نعني الإنسان العادي فقط، وإنما العلماء أيضا .
الإلكترون هو أحد الجسيمات التي تتكون منها الذرة، وهو يدور حول الذرة في مدار محدد وعلى مستوى محدد، وقد يمكن أيضا أن يوجد حرا في الفضاء على هيئة إلكترونات حرة أو أشعة. والتصور الطبيعي عنه أنه جسيم مادي محدد الشكل، على هيئة كرة، وأنه يتحرك طبقا للقوانين الطبيعية مثل أي جسم طبيعي آخر. فيمكننا – مثلا – أن نتنبأ، إذا عرفنا موقعه الحالي وسرعته واتجاهه، أين يوجد وفي أي اتجاه يتحرك وبأي سرعة كما هو الحال مع أي جسم طبيعي آخر.
ولكن الإلكترون يسلك في الواقع سلوكا مختلفا عن ذلك تماما، فإذا أطلقنا سيلا من الإلكترونات نحو حاجز به ثقب واحد وخلفه لوح حسّاس فسنجد أن هذا اللوح يضيء عند نقطة محددة تماما، كما هو متوقع بحيث يسلك الالكترون سلوك جسيم مادي… أما إذا استبدلنا ذلك الحاجز بحاجز آخر به شقين متجاورين فسنجد شيئا غريبا، وهو أن اللوح الحساس سوف يعطينا درجات من الإضاءة القوية والضعيفة فيما يعرف بظاهرة حيود الضوء. فالإلكترونات في هذه الحال تسلك سلوك الموجات وليس سلوك الجسيمات.
بل إذا أسقطت الإلكترونات واحدا واحدا نجد أن نمط التداخل يظل موجودا، هل يعني هذا أن الإلكترون الواحد قد مر خلال الثقبين في الوقت نفسه؟؟؟.
الامر لا يقف عند هذا الحد، سبق وأن قلنا أن الإلكترون يدور حول الذرة في مدارات محددة بمستويات معينة، هنا طرح سؤال هل بامكانه الانتقال من مستوى الى متوى آخر؟ الجواب نعم، لكن الغريب انه ينتقل ما بين تلك المستويات دون أن يمر بالمسافة الفاصلة بينهما –أي لا يمكن ان يتواجد بينهما-. ما يحدث انه كلما انتقل إلى مستوى أعلى امتصّ وحدة من الطاقة (تسمى فوتون)….
كما أنه لا يمكن معرفة مكان وسرعة واتجاه الإلكترون في الوقت نفسه. وذلك ليس بسبب عدم وجود أجهزة للقياس، وإنما إذا عرفنا مكانه بدقة أصبحت سرعته غير محددة إلا بواسطة الاحتمالات، أما إذا عرفنا سرعته أصبح مكانه غير محدد.
بمعنى آخر يمكن للالكترون أن يتواجد في أكثر من مكان في الوقت نفسه.!!!!
وفي النهاية خلص العلماء الى الالكترون له الصفات المشتركة للموجة وللجسيم، ولذلك يمكنك تخيّله في أي هيئة- مثلا – في هيئة سحابة تحتمل الصفتين: تهتز موجيا، أو في هيئة مجموعة من الخيوط المتراكبة التي تهتز موجيا، أو في هيئة غلالة تتشكل موجيا…. ولن تكون تصوراتك تلك بعيدة عن تصورات العلماء. المهم هو أن يفي تصورك هذا بمتطلبات المعادلة الرياضية الموجية التي تحكم الإلكترون، والتي اكتشفها العلماء من خلال التجارب العلمية. وهذه المعادلة العلمية، والتي تسمى بمعادلة شرودنجر Erwin Schrödinger، هي المعادلة الأساسية في علم (ميكانيكا الكم) والتي أضيفت إليها صياغات أخرى على يد ماكس بورن وفيرنر هايزنبرج Werner Heisenberg ثم بول ديراك Paul Adrien Maurice Dirac. وتتضمن المبدأ الشهير الذي صاغه هايزنبرج والمسمى بمبدأ عدم التأكد أو مبدأ الريبة أو مبدأ اللايقين أو مبدأ الشك.
مبدأ الشك، هو المبدأ القائل إن موضع وكمية حركة أي شيء (سواء كان إلكترونا أو بروتونا أو نيوترونا…إلخ) لا يمكن أن يتحددا بدقة في وقت واحد، فإذا تمكنا من قياس أحدهما أصبح الثاني غير محدد إلا بصورة احتمالية.
ربما أصابتك تلك المعلومات ببعض الحيرة والارتباك وأعطتك احساس بالفوضى. لا بأس، فهذا يعني أنك قد بدأت تفهم ماذا تعني (ميكانيكا الكم). وهذه ليست دعابة، وإنما هذا هو رأي العالم الشهير جون أرشيبالد ويلر John Archibald Wheeler من جامعة برنستون وأحد أكبر منظري ميكانيكا الكم وتلميذ نيلز بورNiels Bohr. ويؤكد ذلك العالم الشهير ريتشارد فيلبس فاينمان Richard Philips Feynman المعروف بمشاركته في صياغة نظرية المجالات (الكمية) عام 1947 وبنظريته في (حاصل جمع التواريخ) لتفسير نظرية (الكم) حيث يقول: « أظن أنه يمكنني القول بأمان أن لا أحد يفهم ميكانيكا الكم« …
كما سبق للعالم الشهير ألبرت أينشتين أن ابدى اعترضا شديدا على (ميكانيكا الكم) حيث قال يوما :“لا يمكن ان يكون الله يلعب النرد »، أما دانييل جرينبرج Daniel A. Greenberg، وهو عالم مرموق من سيتي كولج في نيويورك، فيذكر أن أينشتين سبق أن قال: » إذا كانت ميكانيكا الكم حقيقة، فإن العالم يكون قد جن »، ثم يضيف: » حسنا، أينشتين كان محقا، فالعالم هو حقا مجنون ».
أما أنتوني زيلينجر Werner Heisenberg من جامعة إينزبروك فيقول: « بالنسبة لي الهدف الأساسي من عمل التجارب هو بيان مدى غرابة الفيزياء الكمية ». ويضيف: « إن معظم الفيزيائيين غاية في السذاجة لأنهم مازالوا يعتقدون في الوجود الحقيقي للموجات والجسيمات ».
بدايات الفوضى المنطقية أليس كذلك !!!!!؟؟؟؟؟؟.
بقي أن نشير أن لفظ ميكانيكا يعني دراسة حركة الأجسام، ونظرا لأن الأجسام دون الذرية تكتسب طاقة وتطلقها على هيئة وحدات محددة من الطاقة أو (كماتquanta )، سميت دراسة حركة الأجسام دون الذرية باسم : ميكانيكا الكم La mécanique quantique.
النظرية الثالثة : هي « نظرية الفوضي » :
وصلنا الى صلب الموضوع… لذا وجب التنبيه: اتمنى ان تكون على اتم الاستعداد للدخول في غمار الفوضى، لان النتائج التي قد تصل اليها ستتحمل انت وحدك مسؤولية انعكاسات خلاصاتها عليك وعلى تفكيرك….
أول من بحث في الفوضي كان عالم الأرصاد، المدعو إدوارد لورينتزEdward Lorenz. ففي عام 1960 ، كان يعمل على مشكلة التنبؤِ بالطقس. على حاسوب مزود بنموذج لمحاكاة تحولات الطقس مؤلف من مجموعة مِنْ اثنتا عشرة معادلة لتشكيل الطقس. يقوم برنامجِ الحاسوبِ هذا بتوقع نظري للطقس.
في أحد أيام 1961 ، أراد رؤية سلسلة معينة من الحسابات مرة ثانية. ولتَوفير الوقتِ، بدأَ من منتصف السلسلة بدلاً من بدايتها وذهب تاركا الأمر للحاسوب للقيام الحسابات الضرورية. فلاحظ لورينتز عند عودته، أن السلسلة قد تطورتَ بشكل مختلف. بدلاً من تكرار نفس النمط السابق، حيث حدث تباعد يَنتهي بانحراف كبير عن المخطط الأصلي للسلسلة.
وبعد جهد جهيد استطاع في النهاية تفسير ما وقع: حيث قام الحاسوب بتخزين الأعداد بستة منازل عشرية في الذاكرة. لكنه كان يظهر ثلاثة أرقام عشرية فقط. عندما قام لورينتز بإدخال عدد من منتصف السلسلة أعطاه الرقم الظاهر ذو المنازل العشرية الثلاث و هذا أدى لاختلاف بسيط جدا عن الرقم الأصلي الموجود في الحسابات. ورغم أن هذا الخلاف بسيط جدا وضئيل فقد تطور مع تسلسل الحسابات إلى فروق ضخمة تجلت بانحرافات واضحة للمخطط …
تجدر الاشارة انه في ذلك العهد كانت الأفكار التقليدية تعتبر مثل هذا التقريب إلى ثلاثة مراتب عشرية دقيقا جدا ولم يكن الفيزيائيون يلقون أي اهتمام للفروقات التي يمكن أن تنتج خلال المستويات العليا من الحسابات الناتجة عن معطيات الشروط البدائية للتجربة المؤخوذة بالتقريب الى ثلاثة مراتب عشرية فقط، لكن لورينتز غير هذه الفكرة. هذا التأثيرِ هو ما سيعرف بعد ذلك « بتأثيرِ الفراشة ». فكمية الاختلاف الضئيلة في نقاط بداية المنحنيين كانت صغيرة جدا لدرجة تشبيهها بخفقان جناح فراشة في الهواء لكن آثارها كانت عظيمة لدرجة التنبؤ بإعصار يضرب منطقة من العالم.
النتيجة دفعت لورينتز للتصريح بكل وضوح بأنّه من المستحيل توقع حالة الطقس بدقّة. على أية حال، قادَ هذا الاكتشاف لورينتز إلى تشكيل النظرية التي عرفت لاحقا بنظرية الفوضى Le Chaos .
ثمة مشاهد كثيرة في الطبيعة تُعَدُّ مثالاً للحركة الفوضوية. ونعدد منها مساقط المياه، وتشكُّل الغيوم وحركاتها، وتبخر المحيطات، وانفجار البراكين، وتشكل السواحل والجبال، ونمو الأشجار، وتقلُّب المناخ، والدوامات النهرية، وتوزع الإلكترونات الحرة في المواد الصلبة، وانطلاق غاز ما، وانتشار حريق أو وباء. هذا ناهيك عن كل ما يتعلق بالظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات البشرية الطبيعية. غير أن علم الفوضى الناشئ يهدف إلى دراسة هذه الظاهرات بالذات، وإلى استخلاص قوانين لهذه الفوضى المحددة تساعد على فهمها بشكل أفضل.
لنحاول الآن تحديد الإطار الذي يعطيه الفيزيائيون لمفهوم الفوضى، ولنأخذ غازاً في حالة التوازن ضمن حجرة مغلقة. تشبه الجزيئات فيه بتدافعاتها الحركة الفوضوية التي يمكن لمجموعة كبيرة من الكرات الصغيرة تشكيلها وهي تنقذف عشوائياً في مكان محدد أو بحركة المواطنين في ساحة عمومية مغلقة، أو بالتشكلات السياسية في نظام مغلق…الخ
أول مفهوم يبرز هنا هو مفهوم العشوائية، مما يحتم اللجوء إلى الاحتمالات وقوانين الإحصاء.
وبهذا يكون المفهوم الإحصائي رديفاً لا ينفصل عن تعبير الفوضى، أكانت الاحتمالية فيزيائية أم ناجمة عن تقصير إدراكنا. غير أن صفة الاحتمالية غالباً ما تعكس نقص معلوماتنا. والحق أن إحدى طرق قياس الفوضى المقرونة بظاهرة فيزيائية يكمن في قياس نقص المعلومات المتعلق بها. وهذا يعطينا أول تمييز دقيق بين مفاهيم الفوضى والاحتمال ونقص المعلومات.
يتضح جليا أن الوضعية في غاية التعقيد، لذا سنقوم بوقفة ابستمولوجية حول سياقات الموضوع ثم نواصل….
3- وقفة تأمل ما نحن بصدد الحديث عنه قبل المواصلة:
يعترف أينشتاين نفسه بأن نظرية النسبية تدين بالكثير لإلهام ديني. ويقول جان جاك روسو: « ولد علم الفلك من الأسطورة. » ويشير القولان إلى وجود ذكاء شامل في العالم. إن الديانة الكونية التي تحدث عنها أينشتاين، وأعطى مثالاً عليها شخصيتي كل من اسحاق نيوتن و جوهانس كبلرJohannes Kepler، تظهر كمصدر للطاقة الروحية في الوقت نفسه الذي تحدد فيه موضوعاً معرفياً (إبستمولوجياً): ألا وهو البحث عن النظام.
ولاشك أن أسلاف هذه الثالوث الخطي: كبلر–نيوتن–أينشتين قديمون جداً، حتى إننا لا نستطيع تقديم نقطة أولية لانطلاقتهم. فلابد أن الفيثاغوريين وإخوان الصفا مثلاً كانوا ينتمون لخطِّهم.
من جهة اخرى، الفلسفة الأفلاطونية تمدنا بركيزة هامة لإبراز الأصالة الإبستمولوجية للأبحاث الحالية حول الفوضى. فكلمة كوزموس COSMOS اليونانية تتضمَّن معنى النظام الكوني مقابل الفوضى CHAOS. وبحسب أفلاطون فإن التنظيم والذكاء يشكلان العالم الذي يحيط بنا ويميِّزانه. فبرأيه أن الكوزموس هو نتيجة العملية التي تقوم بها قوة منظِّمة. ويقدم لنا تفسيراً موازياً للأسطورة البابلية. فثمة كائن إلهي يدعى الذميورغوس Démiurge، قاد نوعاً من المغما التي لا شكل لها، من الفوضى إلى النظام.
وهكذا فقد اضطر إلى اللجوء إلى مادة أولية، إلى فراغ ما، بمعنى الفوضى المطلقة، أي غياب أي نظام .
والحق أنه لم يكن ثمة فوضى حقيقية لأنه لم يكن ثمة نظام ليخرقها. واستطاع الذميورغوس تحقيق النظام بإدخاله للأشكال وللتناسبات الهندسية والبنى الرياضية. إلا أن العمل الناتج، أي العالم، خضع للصيرورة، للزمن والحركة الدائمة.
وهكذا فإن عالمنا يشتمل على النظام والفوضى بآن واحد. فهو منظم ويخضع لقوانين محددة بفضل الذميورغوس. ومع ذلك فإن الاحتمالية قائمة فيه، لأن الفوضى وضعت بمجرد وجودها البدئي شروطاً بدئية منتظمة ومعقدة جداً، بل وفوضوية، بحيث لا يمكن وصفها.
لذا فإن دراسة الفوضى لا تتطلب فقط مناظير ومفاهيم جديدة، بل وظهور حدس وحساسية جديدين.
عندما سئل إيليا برغوجين I. Prigogine حول تمجيده للفوضى أجاب: « بل إنني على العكس تماماً، مقتنع أننا بحاجة إلى مخططات محددة وإلى مخططات احتمالية في آن واحد. » ويوافقه بشكل آخر الرياضي إيفار إيكلاند I. Ekland: « إن تحديدية قوانين الطبيعة لا تستبعد النزوة والصدفة واللامتوقع. »
فإذا كانت دراسة الفوضى تتطلب، بالتالي، التخلي عن رياضياتنا الأفلاطونية، إلا أن رياضيي الفوضى لا يتخلون بالتأكيد عن كافة أشكال النظام. إنما هم لا يفرضون النظام مسبقاً. فحساباتهم الخوارزمية تحتوي باستمرار على شكل من الذكاء والانتظام مهما كانت نتائجها غريبة. وهذا التغير الجوهري في أسلوب دراسة واختيار الظاهرة، لا يقتصر على الرياضيات، بل وعلى الثقافة والفلسفة بشكل عام. ومهمة رياضيات الفوضى الأساسية هي تقديم تشكيل قياسي يسمح بالوصف المباشر أو غير المباشر، الحقيقي أو الافتراضي، لمختلف أنماط الفوضى.
ومن هنا فإن لغة الفيزياء ستنقلب. فبدلاً من التعامل مع الظاهرة من عَلُ، أي بتطبيق النظام على الظاهرة أو على الحركة غير المفهومة لتفسيرها، فإن الفيزياء ستبدأ من الأدنى أي من الظاهرة، من الحركة–الفوضى، لتفهم جوهر بنيتها الحقيقية، ولتكتشف نظامها الذي لا يخضع إلى حدٍّ كبير لمقاييسنا الذاتية المبدئية.
والمثال الشهير على هذا التحول في المفهوم العلمي هو تطبيق مكسويل للحسابات الإحصائية على جزيئات الغاز ليتوصل إلى فهم وتحليل الآليات الخفية التي تسبب الحركات والصفات الظاهرية للغازات، كالحجم والحرارة والضغط.
وبالفعل استطاع مكسويل استخلاص النظام من الفوضى التحتية، وكانت النتيجة الصاعقة: الكثير من الحركات الظاهرية المنتظمة أو المحددة، مبنية على أسس أكثر عشوائية. وكان من أسباب انتشار وتعمق هذا المفهوم مقارنة مكسويل لنظريته الحركية للغازات بالظاهرات الاجتماعية.
وقد بيَّن المؤرخ هنري توماس بَكُّل Henry Thomas Buckel أنه لو أخذنا مجموعات كبيرة بما يكفي من البشر فإن عدد الوفيات والأمراض والجرائم والزيجات والانتحارات سيكون ثابتاً بشكل عام. وهذا الثابت بحسب بولتزمان يمكن تطبيقه على الأحداث التي تجري في حجرة مقفلة تحتوي على الغاز: « فالأمور، كما يقول، لا يمكن أن تتم بشكل مختلف ضمن مجموعة من الجزيئات« .
وقد أعد الرياضي الإحصائي أدولف كيتليه A. Quételet علماً جديداً بناء على ذلك هو الفيزياء الإحصائية الاجتماعية.
هكذا أعادت الفوضى طرح نفسها بقوة على الفكر البشري، بعد أن قتلتها آلهة الأساطير.
4- الفوضى والهندسة
إن المثال الكلاسي في دراسة الفيزياء الإحصائية هو مثال الجسيم المتحرك بشكل عشوائي انطلاقاً من نقطة ثابتة. وإذا اعتبرنا أن سرعته وخطواته متساوية، إنما اتجاهات سيره عشوائية، سنكون أمام احتمالات هائلة؛ فكيف إذا غيرنا سرعته أو خطواته أو أبعاد الفراغ الذي يتحرك فيه، أو إذا تعددت العناصر المتحركة؟
والسؤال الذي ينطرح هنا: بعد n خطوة، على أية مسافة سيوجد المتحرك بشكل وسطي؟ وما هو الاحتمال إذا حددنا الفترة الزمنية للمسير لكي يصل إلى نقطة معطاة؟ وما احتمال تلاقي متحرِّكين؟ وما هي الفترة الزمنية التي تفصل بين لقاءين متتاليين؟ إن هذا المثال يمكن أن ينطبق على ظاهرات كثيرة، كانتشار الحرارة، او هجر مواطنين او حركة لاجئين مثلاً…
كانت الهندسة حتى وقت قريب تُعتبَر جافة، كونها لا تستطيع التعامل مباشرة مع نماذج طبيعية كالقيم أو الجبال أو الأشجار الخ. ومع ذلك، فثمة في عمل الطبيعة ما يُشعِرنا بأنه يرتكز على تفاصيل هندسية دقيقة…
وهذا ما قاد بونوا ماندلبور B. Mandelbort عام 1975 إلى وضع هندسة جديدة تختلف اختلافاً جذرياً عن الهندسة الإقليدية. ودعاها بهندسة الفراكتالات. وتسمية fractal مشتقة من الجذر اللاتيني franger الذي يعني « كسر » أو « شرخ »، ومن الصفة fractus التي تحمل معنى اللاانتظام والتكسر. وأراد ماندلبور جمع هذين المعنيين في كلمة « فراكتال »*. وهكذا فإن هذا المعنى بالنسبة لماندلبور يشتمل على الشكل والصدفة والبعد. ولم يكن أحد يتوقع ما أثارته هذه الفراكتالات في تطبيقاتها الرياضية والفيزيائية والبيولوجية، بل والفلسفية من نتائج باهرة.
حيث تقدم لنا هذه الفراكتالات ميزة جوهرية لـ « الفوضى المحددة« ، ألا وهي « الحساسية تجاه الشروط البدئية« . فإذا انطلقنا في نظام منتظم الحركة من شروط ابتدائية متجاورة وتقع في الإطار الجاذب نفسه، فإن المسارات المتَّبعة في فضاء المرحلة ستنتهي بأن تتقارب إلى النقطة الثابتة نفسها أو نحو الدور المحدود، وستكون مختلف هذه المسارات متزامنة في الزمان بالنسبة لبعضها بعضاً. وهكذا تتمايز المسارات بسرعة بالنسبة للأنظمة الفوضوية. وخلال وقت قريب نسبياً تبدو وكأن ليس هناك ما عاد يجمعها، هذا إذا استثنينا أنها في فضاء المرحلة تبقى في جوار الجاذب الغريب.
إن هذه الحساسية تجاه الشروط البدئية تقلل من القيمة التحديدية التي يمكن وفقها التنبؤ بأية صيرورة أو تطور. وحتى بقبولنا أن القوانين الفيزيائية محددة، فإن حالات اللايقين التجريبية ادت الى ما يفيد اننا لا نستطيع أبداً أن نعرف بدقة الحالة البدئية لنظام ما… فإذا كان النظام منتظماً تكون الانحرافات وحالات اللايقين بسيطة ويمكن حسابها. أما إذا كان فوضوياً فإنها ستتسع مع الوقت بشكل كبير. إن المسافة التي تفصل المسارات التي كانت متقاربة في المبدأ ستتباعد بنسبة k . T (حيث k معامل ليابونوف).
وهكذا فإن التنبؤ بتطور نظام ما يصبح مجرداً من أي معنى، على الأقل على المدى البعيد، مادام هذا التطور يتعلق بالشرط الابتدائي.
هكذا سقطت أسطورة التقدير المسبق المطلق. بعد أن وجهت الميكانيكا الكوانتية ضربة قوية للتحديدية بقوانينها الاحتمالية… كما لم يعد أحد من العلماء اليوم يعتقد بإمكانية تحقيق تنبؤ بعيد المدى في مجال الأحوال الجوية أو المناخ مثلاً.
لكن يبقى السؤال : هل الفوضى المحددة استثناء أم قاعدة؟
الواقع أن هذه النظرية تبدو وكأنها تشمل أبسط الأنظمة. ففي حين كان جيبس Gibbs وبولتزمان يعتقدان أن العدد الكبير للجزيئات هو المسؤول عن الفوضى التي تسود غازاً مستقراً، تبين اليوم أنه ليس من الضروري أن يكون النظام معقداً جداً !!!!… فثلاث درجات من الحرية يمكن أن تكفي ليكون هناك فوضى محددة…. وهذا يعارض الفكرة القديمة بأن الفوضى تعني عدداً كبيراً في درجات الحرية.
وربما كانت هذه الفكرة السائدة هي التي منعت العلماء من الاهتمام بأعمال بوانكاريه حول الفوضى حتى عام 1970.
ومع ذلك، لا يزال دور الفوضى غير مفهوم تماماً في الفيزياء:
كيف يتم الانتقال من النظام إلى الفوضى؟
وهل آلية هذه الانتقالات عالمية أم أن هناك عدداً كبيراً أو محدوداً منها؟
كيف تظهر درجات الحرية؟ …
5- النظام والفوضى أية علاقة؟
تقودنا الأسئلة السابقة إلى محاولة فهم الفوضى والنظام في إطارهما الفيزيائي بقدر ما يكون ذلك ممكناً.
إن الطبيعة تقدم لنا باستمرار الأمثلة على النظام والفوضى وعلى حالات الانتقالات بينهما. من منا لم تدهشه هندسة ندفة الثلج، ومن منا لم يحاول الإمساك بها يوماً فإذا بها تتحول إلى نقطة ماء؟
يبدو لنا أن تعريف النظام أمر سهل، لكنه في الحقيقة أصعب من تحديد ماهية الفوضى. فالتطور الطبيعي يميل نحو الفوضى بحسب المبدأ الثاني في الترموديناميكا. وبشكل أبسط، فإن كل مظاهر الطبيعة هي تعقيدات فوضوية. فالخلائط في النهاية هي مظهر فوضوي. الصخرة مثلاً، أو الهواء، أو الغيمة هي أشياء خليطة يسهل دمج مكوِّناتها أكثر بكثير من فصلها وتحديدها. ولقد بات بالإمكان منذ أعمال جيبس وبولتزمان شرح وحساب درجة الفوضى في نظام مادي. لكن هذه الأعمال نفسها تقدم للمرة الأولى إمكانية علمية دقيقة لتحديد النظام. وعلينا أن نتذكر دائماً أن النظام والفوضى كانا باستمرار جوهر وأساس التطور النظري في الفيزياء.
6- قياس الفوضى في الفيزياء: الإنتروبيا Entropie
لقد حاول الفيزيائيون منذ زمن طويل تكميم/قياس الفوضى. واستخدم لهذا الغرض مفهوم الإنتروبيا Entropie. وكان مفهوم الطاقة الموافق للمبدأ الأول في الترموديناميكا قد اشتُق من خاصية انحفاظ الكمية الاساسية، مما أدى لتقبُّله بسهولة.
وعلى العكس تماماً، كان الأمر بالنسبة لمفهوم الإنتروبيا الذي ظل غامضاً بسبب محتواه الكيفي نسبياً فيما يتعلق بالفوضى وباللاانتظام وباللاعكوسية. والحق أنه من السهل تعميم وتحديد عدد التشكيلات W الموافق لقيم معطاة من التحولات الماكروسكوبية (هي التركيزات هنا). أما الحساب الدقيق لـ W فيمكن أن يكون أكثر صعوبة بكثير. لكن الصعوبة الحقيقية كانت ربطه بالترموديناميك.
وقد بدد بولتزمان هذه الصعوبة بالعلاقة التي قدمها نحو عام 1875، معرفاً فيها الإنتروبيا الإحصائية بالشكل:
S = k Log W
حيث S الإنتروبيا، وk ثابت بولتزمان، وW يمثل عدد التشكيلات الميكروسكوبية المتوافقة مع التقييدات الماكروسكوبية المفروضة على النظام.
ونلاحظ أنه كلما كان النظام أغنى بالتشكيلات الممكنة كانت هذه الإنتروبيا أكبر. وعلينا الإشارة إلى أن مفهوم الإنتروبيا هذا يختص بحالات الاستقرار التي يمكن للنظام بلوغها ضمن صيرورة لاعكوسة.
ويُعَد هذا التعريف هو التعريف الميكروسكوبي الذي يمكن ربطه بالتعريف الماكروسكوبي المعطى في الترموديناميك بالعلاقة:
.
أي أن الإنتروبيا S هي مكاملة الحرارة Q على تغير عكوسي ابتداء من درجة الحرارة T = 0.
وهكذا يمكننا استخلاص تعريف للنظام في الميكانيكا الإحصائية اعتماداً على مفهوم الإنتروبيا.
فحالة النظام تتحقق عندما يكون: W = 1 و S = 0.
7- الفوضى المحددة
بعد أن حددنا مفهوم الإنتروبيا بدقة، يبقى علينا أن نعرِّف « الفوضى المحددة » التي سبق وذكرناها. لقد بيَّن بوانكاريه منذ القرن الماضي أنه يمكن أن يكون للحركة المحددة بدرجات قليلة من الحرية بعض صفات الحركة الفوضوية.
نقول عن حركة محددة أنها حركة فوضوية محددة عندما تتحقق الصفات التالية: عدم التكرار، وعدم إمكانية التنبؤ المستقبلي بها، ومرور النظام بالضرورة بكافة الحالات الميكروسكوبية التي تصادفه (érgodicité). وهكذا نميز بين الفوضى التي يزداد فيها اللاتعين بشكل أسِّي، والفوضى المحددة التي يزداد فيها اللاتعيين بشكل خطي.
قد نظن من خلال تعبير « الفوضى المحددة » أنه بالإمكان حساب هذه الفوضى ولو عن طريق الكمبيوتر.
إلا أن المسألة في جوهرها تتعلق بتحديد الحسابات. فما هو صحيح في تحديد البدايات أو الشروط البدئية صحيح أيضاً في التكرارات: فعلى مدى كل مرحلة من الحسابات تدخل أخطاء جديدة ناجمة عن التدوير. فكل عدد يُمثَّل في الكمبيوتر بعدد من البيت bits التي نلقمها بعد التقريب لأن ذاكرة الكمبيوتر محدودة فيزيائياً. وبالتالي فليس بإمكاننا معالجة الأعداد الحقيقية تفصيلاً. وهكذا لا يمكن تعويض البيت التي فُقِدت، لكنها تشارك مع ذلك في حساب المسارات في الفوضى المحددة بقدر مساهمة الأعداد المبرمجة نفسها.
وبالنتيجة، ستكون النتائج التي نحصل عليها خاطئة وليست تقريبية. ومن هنا تعذُّر التقدير على المدى البعيد. لكن هذا النقد الرياضي بحت، وهو لا يمس الفوضى المحددة الفيزيائية.
8- هل يمكن نشوء النظام من الفوضى ؟
سأحاول في ختام هذا الجزء من هذا البحث أن أعالج الفكرة الجوهرية التي طالما أرَّقت الفلاسفة حول إمكانية نشوء النظام من الفوضى، والأثر الذي تركه العلم حول هذه النقطة في الفلسفة الحديثة.
يمكن التعبير عن هذه الفكرة بشكل عام جداً بالشكل التالي:
لنعتبر المبدأ القائل، و الذي سندعوه (ب) : » الأقل يمكن أن يولِّد الأكثر. » …. الأخذ بهذا المبدأ، يطرح مشكلة إبستمولوجية دقيقة وشائكة. ومع ذلك لنحدد منذ البداية أن الصعوبة لا تنشأ إلا في حالة النشوء الآني للنظام.
في حين اعتمدت الفلسفة الغربية حتى فترة قريبة نسبياً مبدأ مخالفاً لـ (ب)، سندعوه (أ)القائل : » الأقل لا يمكن أن يعطي الأكثر. » وكان هذا المبدأ يبدو مطلقاً، وبخاصة من حيث يمكن اعتباره موازياً لمبدأ السببية.
يعبر إتيين جِلسون E. Gilson عن المبدأ (أ) بالشكل التالي: « كل ما يملك بدرجة معينة من الكمال، فإن ما يحمله من كمال مأخوذ من الشكل الكامل والمطلق » (أي كسبب أولي).
ويستخدم ديكارت بشكل أوضح هذا المبدأ بقوله في تأملاته Méditations: « إن العدم لا يمكن أن يعطي شيئاً، بل إن ما هو أكمل، أي ما يتضمن في ذاته حقيقة أكثر، لا يمكن أن يكون ناتجاً أو متعلقاً بما هو أقل كمالاً… ».
وعندما ينقد كانط الحجة الأنطولوجية (أي المختصة ببرهان وجود الكائن)، فإن نقده موجَّه أساساً للروابط بين الضرورة المنطقية والوجود الحقيقي، لكنه لا يمس هذا المبدأ أبداً.
أما هيغل الذي يقبل بصلابة البرهان الأنطولوجي ontologique، فإنه يطور (في دروس في فلسفة التاريخ) موضوعاً يرتكز على المبدأ (ب). فنراه يدافع عن فكرة أن الأفعال الإنسانية تنشأ عن الفوضى، وأن البشر يتصرفون وفق أهوائهم ورغباتهم، وأن ذلك كله يقود مع ذلك إلى تقدم الفكر والمنطق مع الزمن.
وبعد هيغل نجد عند سبنسر Spencer برهاناً مطولاً حول « الاثبات المتجانس » يقلد فيه أفكاراً موافقة للمبدأ (ب).
ويعبِّر باشلار Bachelard عن فكرة ضرورة التمايز، أي اختفاء التجانس بين العناصر المتفاعلة بقوله: « إنه من الأفضل لكي تشكل العناصر نظاماً ما أن يتوفر داخل كل نظام تنوع رياضي أساسي بين المركبات. » ولاشك أننا نستطيع أن نرى في هذا التنوع الرياضي تفسيراً مقبولاً للفوضى، ضمن منظور نشوء الكون من الفوضى.
ويؤكد بيير داكو (في مؤلفه علم النفس الجديد وطرقه المدهشة) على المبدأ الثاني (ب) من خلال تناوله لمفهوم الإنتروبيا. فهو يرى أن الفناء ليس إلا تحولاً، الأمر الذي يُعَدُّ قانوناً طبيعياً. ثم نراه يتساءل إذا لم يكن هناك وجه آخر للإنتروبيا، ألا وهو ازدياد معارف الإنسان ووعيه مع أن بدنه يبدأ بالهرم منذ ولادته. ومع وجود قانون الموت، لكن الحياة لا تنقص برأيه…. وهو يستشهد ببرغسون الذي يقول: « لا يبدو أبداً موت الأفراد تناقصاً في الحياة بشكل عام. والحياة لم تجهد أبداً لإطالة وجود فرد من الأفراد. » وهكذا يتعلق هذا الثبات وهذه الديمومة برأي بيير داكو بمبدأ وحيد تكون المادة عبئاً عليه. وهكذا سيعود الوعي إلى مصدره الأول بعد التخلص منها.
إن الأمثلة المذكورة آنفاً تبين احتدام المواجهة بين أنصار المبدأين (أ) و(ب). والحق أنه منذ عصور قديمة جداً كان ثمة تقليد يمكن ربطه بطريقة ما بالمبدأ (ب)، لكن هذا التقليد ظل خارج الأطُر المتعارف عليها والمقبولة.
والكيمياء أحد الأمثلة على ذلك. فمن البوتقة (الفوضى) يخرج الذهب (النظام). ومرحلة السواد (الفوضى) تسبق مرحلة الحَمار (الذهب) والبياض (النظام).
وصعوبة قبولنا بالمبدأ الثاني (ب) ناجمة عن كون المبدأ الأول (أ) سائداً في حياتنا اليومية (كالتحلل اليومي)، حتى ليبدو لنا طبيعياً.
أما ملاحظة ظهور النظام في الطبيعة فهي أقل عموماً، باستثناء الظاهرات البيولوجية والنباتية التي ليست ظهورات آنية للنظام في النهاية. فالنباتات والحيوانات تولد وتنمو مشكِّلة أنظمة مفتوحة تتبادل المادة والطاقة مع محيطها، وهي بعيدة عن الاستقرار.
أما الفيزياء فتقدم لنا بعيداً عن التوازن الترموديناميكي مقولة هامة، مفادها أن الفوضى القصوى ليست القاعدة، ولاشيء يمنع من نشوء نظام زمني أو مكاني. ومن أشهر الأمثلة على التشكل الآني للبنى المنتظمة تجربة الفيزيائي الفرنسي بينارد Bénard. فقد اكتشف أن بنية على شكل خلايا نحل تتشكل فجأة، كما ولو بقفزة، وذلك عندما نسخن سائلاً ما إلى حدّ معين. ويمكن لهذه التجربة وتجارب أخرى أن تؤكد لنا أنه في نظام مفتوح يمكن تشكُّل بنى أو حالات منتظمة، وأن هذه الحالات تتشكل من خلال تنظيم ذاتي حقيقي.
إلا أنه لا يمكن ملاحظة هذه الظاهرات الآنية بحق إلا في المختبرات. ومن الأمثلة عليها خلايا بينارد التي ذكرناها، وحلقات ليسفانغ Leisevang، والتجارب المسماة بقبيل الحيوية prébiotiques، وتفاعلات جابوتنسكي Zhabotinsky، وغيرها.
والعلماء الذين يجرون هذه التجارب هم الأكثر تعلقاً بإمكانية أن يكون المبدأ (ب) مبدأ طبيعياً. لكنهم ما إن يتركوا مجال الملاحظة التجريبية لمحاولة تقديم تفسير نظري حتى يظهر عجزهم، وذلك لسببين: الأول هو تعقيد المسائل المطروحة، حتى عندما تبسَّط إلى أقصى حد فيزيائياً؛ ثم هناك التناقض الظاهري بين ما يُرصَد والقانون الثاني في الترموديناميكا، أي علاقة الإنتروبيا والفوضى.
إن المسألة الحقيقية المطروحة في الواقت الراهن هي تحديد مضمون المبدأين (أ) و (ب) المتعارضين، والعاملين معاً في الطبيعة، لمعرفة فيما إذا كانا يمثلان سيرورتين متعارضتين أم يوافقان بالأحرى اختلافاً ناشئاً عن طريقة الرصد ووجهات نظر المراقبين. فإلى أين وصلت تأملات وأبحاث العلماء في هذا الاتجاه؟
لقد أدى اهتمام الباحثين بمسألة ولادة النظام من الفوضى إلى انتشارها في مختلف العلوم، وكان من نتائجها ملاحظة المبدأ الثاني في ظواهر مختلفة. ففي الفيزياء والفيزياء الكيميائية والبيولوجيا، هناك أمثلة عديدة على النشوء والتكون حيث يكون النظام مرصوداً فيها بشكل مباشر. بل إن العلماء يحاولون أن يبيِّنوا التشابهات من خلالها بين ما يتأتى عن العالم غير الحي وما ينجم عن العالم الحي.
وفي العالم الأعمق الفيزيائي الحيوي الذي لا يمكن مراقبته بنفس سهولة العالم السابق، قدمت الأعمال حول التكون الحيوي (أوبارين Oparin 1965 وتوماس Thomas 1967) ما يمكن أن يذكي الفكر حين بينت مثلاً أن تفريغات كهربائية (وهي فعل فوضوي) في غاز بسيط جداً (هو نظام بسيط) يمكن أن تؤدي إلى إنتاج حموض نووية ونيوكليوتيدات (وهي نظام أكثر تعقيداً).
وكانت معظم الدراسات والأبحاث التي ذكرناها ضمن محاولات لتقديم تفسير نظري لها، إن بمساعدة نماذج خاصة، أو اعتباراً من منظورات أكثر عمومية استمدت أسسها من الديناميكا النوعية ومن نظرية المعلومات ومن ترموديناميك السيرورات اللاعكوسة (أتلان Atlan 1972-1974، وينفري Winfree1974، يريغوجين Prigogine1977، نيكوليسNicolis وبريغوجين 1977…).
وعلى الرغم من كافة هذه الدراسات والنقاشات النظرية، لا يمكننا القول إن المسألة الإبستمولوجية قد حُلَّت، وذلك أساساً لأن المفاهيم المستعملة، وبخاصة مفهوم النظام، لا تزال حتى الآن غير محددة بدقة.
لقد شهدت هذه الأبحاث خلال العقد الأخير تقدماً ملموساً وبخاصة بفضل أعمال تونُّلا Tonnelat 1978 التي تحققت في إطار لغة الترموديناميكا. فقد بيَّن أن الربط بين الإنتروبيا والفوضى، الذي أخذ به كحقيقة مثبتة منذ كلاوزيوس Clausius وبولتزمان، ليس ربطاً ضرورياً. ويفصل تونُّلا نشوء النظام عن تناقضه الظاهري مع المبدأ الثاني في الترموديناميكا الأمر الذي يُعدُّ خطوة حاسمة نحو رؤية أكثر واقعية للمسألة.
ويؤكد تونُّلا أيضاً أنه من الضروري تحديد على أي مستوى (ميكروسكوبي، أي إدراكي تصويري، أو ماكروسكوبي أي رصد وتجربة) تتوافق الصفات التي نقدر درجة فوضاها أو نظامها، ومعرفة حقيقة هذه الصفات (هل هي تَمَْضُعات مكانية أم سويَّات طاقية).
كذلك نجد في أعماله ملاحظات هامة وضرورية على التماثل الشكلي البحت بين الإنتروبيا والمعلومة، الأمر الذي يستحق تعميقاً كبيراً من الباحثين.
نرى إذن بشكل حاسم أن مسألة نشوء النظام لا تزال حتى الآن غامضة، وذلك بشكل أساسي بسبب غموض مفاهيمنا. ويبدو مع ذلك أن بعض طرق الفهم بدأت تتمايز. وبعد أبحاث تونُّلا، هناك عدة نقاط تستحق أن نقف عندها:
· أولاً: هناك إجماع يمكن أن يتحقق حول أن النظام يفرض ظهور « تمايزات » (وضعيات مميزة لبعض العناصر على الأقل في الفضاء الموصوف)، وبالتالي إلى ظهور حركات قسرية غير متجانسة قادرة على حفظ هذه التمايزات (أو الشذوذات). ومن المهم أن نقرن هذه النظرة بأفكار سبنسر حول « تضاعف النتائج »، وأيضاً بأفكار بريغوجين وفورستر Foerster حول دور التموُّجات والضجيج.
· ثانياً: أحب أن أشير أيضاً إلى الربط الذي غالباً ما يُطرَح بين النظام والتعقيد، الأمر الذي ليس إلا مصدراً جديداً للتشويش. وبحسب التعاريف المعطاة لهذين المفهومين نجدهما أحياناً يتوافقان وأخرى يتعارضان. وفي هذا الإطار أشير مثلاً إلى أفكار تيار دو شاردان حول نشوء الفكر التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التعقيد، لكن ليس كنظام بالمفهوم الشائع للكلمة، بل كتركيزات على مستويات مختلفة تتمركز حول نقطة واحدة أو في جوارها، مما يؤدي إلى انبثاق كثافة طاقية ناتجة في الأساس عن خيار وحيد بحسب تعبير بريغوجين كما سنجد لاحقاً.
· ثالثاً: يمكننا الإشارة إلى أنه، قبل أي مقابلة أو معارضة بين المفاهيم المفروضة، يجب أن نحدد بدقة بأية مواصفات وعلى أي مستويات من الوصف تتعلق بالنسبة للنظام المعتبر.
· رابعاً وأخيراً: إن فهم السيرورات المسببة لتزايد أو تناقص النظام يتطلب تمييزاً واضحاً بين التي تنتج عن التفاعلات بين الأنظمة، وتلك التي تنتج عن التفاعل بين نظام ووسط موصوف بمعاملات عامة، وعن تلك التي تنتج عن تطور آني. ومن وجهة نظر إبستمولوجية، لا تكون الحالتان الأولى والثانية دقيقتين كالثالثة. ومن هنا أهمية التمييز بينها. والحق أن الخلط بين هذه الحالات ليس نادراً أبداً، مما يعقِّد بشكل خاص توضيح وفهم المفاهيم. فمثلاً سنخطئ إذا فهمنا المثال الذي أوردناه لهيغل أنه يصور تطوراً آنياً. والحق أن معاملات النظام التي تظهر على مستوى الجماعة الاجتماعية ترتبط، حتى ولو برابطة غير مباشرة، بمقصد كل فرد، أي بصيرورات تقع على مستوى آخر من الوصف حيث تتفاعل أنظمة مختلفة فيما بينها.
إن انعكاس المبدأ الثاني (ب) يبدو واضحاً على أعمال مدرسة بروكسل (بريغوجين وزملائه). إن الحياة تتصف بالنظام: فالتحول الغذائي في الخلايا يتطلب توافق آلاف ردود الفعل الكيميائية، وهذا ما يدعى بالنظام التوفيقي.
كذلك فإن الشيفرة الوراثية تحدد ترتيباً للجزيئات يسمح مثلاً بتخصص الإنزيمات: ذلكم ما يدعى بالنظام البنائي أو المعماري. غير أنه يبدو أن ثمة لا توافق بين المبدأ الثاني في الترموديناميكا وظهور الحياة المنتظمة.
لكن الباحثين في مدرسة بروكسل، وعلى رأسهم بريغوجين، قلبوا الآية. فهو يرى أن التشكيلات البيولوجية حالات معينة من اللاتوازن. وتتطلب هدراً مستمراً للطاقة وللمادة. ومن هنا جاء اسمها بالبنى المبدِّدة. ويكتب بريغوجين: « لقد ظهرت الحياة من خلال تتابع حالات غير مستقرة. وبالتالي فإن الضرورة، أي التشكيل الفيزيائي الكيميائي للنظام والضغوط التي يفرضها عليه الوسط، هي التي تحدد عتبة اللااستقرارية للبنية. أما المصادفة فهي التي تقرر أي تموج (أو تغير) سيتسع بعد أن تكون البنية قد بلغت هذه العتبة ونحو أي تشكيل، ونحو أي نمط وظيفي ستتجه من بين كافة الأنماط والتشكيلات التي تجعلها ضغوط الوسط ممكنة. »
وهكذا، نرى أنه بالنسبة لإيليا بريغوجين يكون دور المصادفة أو العشوائية دوراً محدوداً. فهو يُقلَّص إلى خيار واحد من بين إمكانيات كثيرة مختلفة، في حين يكون هذا الخيار بالنسبة لجاك مونود J. Monod عشوائياً تماماً.
ولاشك أن النظرية النوعية للبنى لا تزال في بدايتها. وينتظر العلماء تطورات هامة بصددها في المستقبل القريب. ومن المهم أن نلاحظ منذ الآن أن الحياة تشتمل على بنى منتظمة (من نمط البنى التي يمثلها الإيقاع القلبي) وعلى بنى فوضوية (من نمط الصيرورات العصبية التي يشكل الدماغ مركزها). ولكن في هذه الحالة الأخيرة، نرى بوضوح أن الفراكتالات متضمنة في الدماغ، أي أن النهايات العصبية وتفرعاتها تخضع في النهاية لنظام عام، وإن كان يصعب تحديده في نسق أو في معادلة محددة.
ويبدو أنه من المنطقي، أمام عمومية هذه السيرورات، الاعتقاد بأن هذه الأنظمة تمثل دينامية مرتبطة بجواذب غريبة أمكنها أن تلعب كذلك دوراً في ولادة الظاهرات الحية.
فنحن نعلم أن بنية نديفة الثلج تحفظ أثر بعض صفات الشروط التي جرت وفقها سيرورات تحولها إلى جسم صلب. كذلك فإن مراقبة بعض المكثِّفات العضوية biopolymères يمكن أن تكشف عن بعض الشروط في اللااستقرار التي سبقت السيرورات التي سمحت بتشكُّلها. وهذا هو البرنامج الذي عمل عليه فريق بروكسل طويلاً.
إن فهمنا لنص القانون الثاني في الترموديناميكا يتبلور شيئاً فشيئاً. ففي الأنظمة المعزولة كان هذا المبدأ مرتبطاً بفكرة التحلل. وبالنسبة للأنظمة الحية، فإن هذا المبدأ يقدم، على العكس، إمكانية سيرورة تشكُّل ذاتي.
ترى ما هي انعكاسات هذا المبدأ كونياً؟ ذلكم هو السؤال الصعب.
فنحن عندما ننظر للكون كله كبنية واحدة، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الإنتروبيا والثقالة على حدٍّ سواء. غير أن الصلة بين الترموديناميكا والثقالة لا تزال مجهولة، على الرغم من بعض النجاح الجزئي لبعض النظريات في إطار نظرية الثقوب السوداء.
ونختم بسؤالين:
هل أن الكون، مأخوذاً بكلِّيته، خاضع لتطور دوري، أم أنه سينتهي إلى تحلل لاعكوس؟
هل يجب علينا أن نختار بين الكون الدوري والكون الإنتروبي؟
تحياتي
عبد العالي الجابري
1 يونيو 2015
* يعرَّف الفراكتال رياضياً بالشكل: إذا كان لدينا مجموعة ما S في فراغ RE، فإنها تدعى فراكتالاً إذا كان بعد هوشدورف سيكوفيتش لها أكبر تماماً من بعدها الطوبولوجي.
Soyez le premier à commenter